فصل: ذكر مسير بختنصّر إلى بني إسرائيل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر وفاة سليمان:

لما ردّ الله إلى سليمان الملك لبث فيه مطاعاً والجنّ تعمل له {ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات} سبأ: 13 وغير ذلك ويعذّب من الشياطين من شاء ويطلب من شاء، حتى إذا دنا أجله وكان عادته إذا صلى كل يوم رأى شجرة نابتة بين يديه، فيقول: ما اسمك؟ فتقول: كذا، فيقول: لأيّ شيء أنت؟ فإن كانت لغرس غرست وإن كانت لدواء كتبت، فبينما هو يصلّي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه فقال لها: ما اسمك؟ فقالت: الخرنوبة، فقال لها: لأيّ شيء أنتِ؟ قالت: لخراب هذا البيت، يعني بيت المقدس، فقال سليمان: ما كان الله ليخرّبه وأنا حيّ، أنت التي على وجهك هلاكي وخراب البيت وقلعها، ثم قال: اللهم عم على الجنّ موتي حتى يعلم النّاس أن الجنّ لا يعلمون الغيب.
وكان سليمان يتجرّد للعبادة في بيت المقدس السنة والسنتين والشهر والشهرين وأقلّ وأكثر، يدخل معه طعامه وشرابه، فأدخله في المرّة التي توفي فيها، فبينما هو قائم يصلي متوكئاً على عصاه أدركه أجله فمات ولا تعلم به الشياطين ولا الجن، وهم في ذلك يعملون خوفاً منه، فأكلت الأرضة عصاه فانكسرت فسقط، فعلموا أنه قد مات، وعلم الناس أنّ الجن لا يعلمون الغيب ولو علموا {الغيب ما لبثوا في العذاب المهين} سبأ: 14 ومقاساة الأعمال الشاقة.
ولما سقط أراد بنو اسرائيل أن يعلموا منذ كم مات، فوضعوا الأرضة على العصا يوماً وليلة فأكلت منها، فحسبوا بنسبته فكان أكل تلك العصا في سنة، ثمّ إن الشياطين قالوا للأرضة: لو كنت تأكلين الطعام لأتيناك بأطيب الطعام، ولو كنت تشربين الشراب لأتيناك بأطيب الشراب، ولكنّا سننقل لك الماء والطين، فهم ينقلون إليها ذلك حيث كانت، ألم تر إلى الطين يكون في وسط الخشبة؟ فهو ما ينقلونه لها.
قيل: إن الجن والشياطين شكوا ما يحلقهم من التعب والنصب إلى بعض أولي التجربة منهم، وقيل: كان إبليس، فقال لهم: ألستم تنصرفون بأحمال وتعودون بغير أحمال؟ قالوا: بلى، قال: فلكم في كلّ ذلك راحة، فحملت الريح الكلام فألقته في أذن سليمان، فأمر الموكّلين بهم أنهم إذا جاءوا بالأحمال والآلات التي يبنى بها إلى موضع البناء والعمل يحملهم من هناك في عودهم ما يلقونه من المواضع التي فيها الأعمال ليكون أشقّ عليهم وأسرع في العمل، فاجتازوا بذلك الذي شكوا إليه حالهم فأعلموه حالهم، فقال لهم: انتظروا الفرج فإنّ الأمور إذا تناهت تغيّرت، فلم تطل مدّة سليمان بعد ذلك حتى مات؛ وكان مدّة عمره ثلاثاً وخسمين سنة، وملكه أربعين سنة.

.ذكر من ملك من الفرس بعد كيقباذ:

لما توفي كيقباذ ملك بعده ابنه كيكاووس بن كينية بن كيقباذ، فلما ملك حمى بلاده وقتل جماعة من عظماء البلاد المجاورة له، وكان يسكن بنواحي بلخ، وولد له ولد سماه سياروخش وضمّه إلى رستم الشديد بن داستان بن نريمان بن جوذنك بن كرشاسب، وكان أصبهبذ سجستان وما يليها، وجعله عنده ليربّيه، فأحسن تربيته وعلّمه العلوم ولفروسيّة والآداب وما يحتاج الملوك إليه، فلمّا كمل ما أراد حمله إلى أبيه، فلمّا رآه سرّ به صورةً ومعنى.
وكان أبوه كيكاووس قد تزوج ابنة أفراسياب ملك الترك، وقيل: إنها ابنة ملك اليمن، فهويت سياوخش ودعته إلى نفسها، فامتنع، فسعت به إلى أبيه حتى أفسدته عليه، فسأل سياوخش رستم الشديد ليتوصل مع أبيه لينفذه إلى محاربة أفراسياب بسبب منعه بعض ما كان قد استقرّ بينهما، وأراد البعد عن أبيه ليأمن كيد امرأته، ففعل ذلك رستم، فسيّره أبوه وضمّ إليه جيشاً كثيفاً، فسار إلى بلاده الترك للقاء أفراسياب، فلمّا سار إلى تلك الناحية جرى بينهما صلح، فكتب سياوخش إلى أبيه يعرفه ما جري بينه وبين أفراسياب، فلمّا سار إلى تلك الناحية جرى بينهما صلح، فكتب سياوخش إلى أبيه يعرفه ما جرى بينه وبين أفرسياب من الصلح، فكتب إليه والده يأمره بمناهضة أفراسياب ومحاربته وفسخ الصلح، فاستقبح سياوخش الغدر وأنف منه، فلم ينفذ ما أمره به، ورأى أن ذلك من فعل زوجة والده ليقبّح فعله، فراسل أفراسياب في الأمان لنفسه لينتقل إليه، فأجابه أفراسياب إلى ذلك، وكان السفير في ذلك قيران بن ويسعان، ودخل سياوخش إلى بلاد الترك، فزكرمه أفراسياب إلى ذلك، وكان السفير في ذلك قيران بن ويسعان، ودخل سياوخش إلى بلاد الترك، فأكرمه أفراسياب وأنزله وأجرى عليه وزوّجه بنتاً له يقال لها وسفافريد، وهي أمّ كيخسرو، فظهر له من أدب سياوخش ومعرفته بالملك وشجاعته ما خاف على ملكه منه، وزاد الفساد بينهما بسعي ابني أفراسياب وأخيه كيدر حسداً منهم لسياوخش، فزمرهم أفراسياب بقتله، فقتلوه ومثلوا به، وكانت زوجته ابنة أفراسياب حاملة منه بابنه كيخسرو، فطلبوا الحيلة في إسقاط ما في بطنها، فلم يسقط، فأنكر قيران الذي كان أمان سياوخش إليه لتضع ما في بطنها ويقتله، فلمّا وضعت رقّ قيران لها وللمولود ولم يقتله وستر أمره حتى بلغ، فسيّر كيكاووس إلى بلاد الترك من كشف أمره وأخذه إليه.
وحين بلغ خبر قتله إلى فارس لبس شادوس بن جودرز السواد حزناً، وهو أوّل من لبسه، ودخل على كيكاووس فقال له: ما هذا؟ فقال: إنّ هذا اليوم يوم ظلام وسواد.
ثم إنّ كيكاووس لما علم بقتل ابنه سيّر الجيوش مع رستم الشديد وطو أصبهبذ أصبهان لمحاربة أفراسياب، فدخلا بلاد الترك فقتلا وأسرا وأثخنا فيها، وجرى لهما مع أفراسياب حروب شديدة قُتل فيها ابنا أفراسياب وأخوه الذين أشاروا بقتل سياوخش.
وزعمت الفرس أن الشياطين كانت مسخرّة له، وأنها بنت له مدينة طولها في زعمهم ثلاثمائة فرسخ وبنوا عليها سوراً من صرف وسوراً من شبه وسوراً من فضة، وكانت الشياطين تنقلها بين السماء والأرض وما بينهما، وأن كيكاووس لا يأكل ولا يشرب ولا يحدث، ثمّ إنّ الله أرسل إلى المدينة من يخرّبها فعجزت الشياطين عن المنع عنها، فقتل كيكاووس جماعة من رؤوسائهم.
وقال بعض العلماء بأخبار المتقدّمين: إنّما سخّر له فعل الشياطين بأمر سليمان بن داود، وكان مظفّراً لا يناوئه أحدٌ من الملوك إلا ظهر عليه، فلم يزل كذلك حتى حدّثته نفسه بالصعود إلى السماء، فسار من خراسان إلى بابل، وأعطاه الله تعالى قوّة ارتفع بها هو ومن معه حتى بلغوا السحاب، ثم سلبهم الله تلك القوة، فسقطوا وهلكوا وأفلت بنفسه وأحدث يومئذ.
وهذا جميعه من أكاذيب الفرس الباردة.
ثمّ إنّ كيكاووس بعد هذه الحادثة تمزّق ملكه وكثرت الخوارج عليه وصاروا يغزونه، فيظفر مرّة ويظفرون أخرى، ثمّ غزا بلاد اليمن وملكها يومئذ ذو الأذعار بن أبرهة ذي المنار بن الرايش، فلما ورد اليمن خرج إليه ذو الأذعار، وكان قد أصابه الفالج، فلم يكن يغزو، فلمّا وطئ كيكاووس بلاده خرج إليه بنفسه وعساكره وظفر بكيكاووس فأسره واستباح عسكره وحبسه في بئر وأطبق عليه، فسار رستم من سجستان إلى اليمن وأخرج كيكاووس وأخذه، وأراد ذو الأذعار منعه فجمع العساكر وأراد القتال ثمّ خاف البوار فاصطلحا علي أخذ كيكاووس والعود إلى بلاد الفرس، فأخذ وأعاده إلى ملكه، فأقطعه كيكاووس سجستان وزابلستان، وهي من أعمال غزنة، وأزال عنه اسم العبودية، ثم توفي كيكاووس، وكان ملكه مائة وخمسين سنة.

.ذكر ملك كيخسرو بن سياوخش بن كيكاووس:

لما مات كيكاووس ملك بعده ابن ابنه كيخسرو بن سياوخش بن كيكاوس، وأمه وسفافريد ابنة أفراسياب ملك الترك، فلما ملك كتب إلى الأصبهذين جميعهم أن يأتوا بعساكرهم جميعها، فلما اجتمعوا جهّز ثلاثين ألفاً مع طوس وأمره بدخول بلاد الترك، وأن لا يمرّ بقرية ولا مدينة لهم إلا قتل كل من فيها إلا مدينة من مدنهم كان بها أخ له اسمه فيروزد بن سياوخش، كان أبوه قد تزوج أمه في بعض مدائن الترك، فاجتاز طوس بها فجرى بينه وبين فيروزد حرب قتل فيها فيروزد، فبلغ خبره كيخسرو فعظم عليه وكتب إلى عمّ له كان مع طوس يأمره بالقبض على طوس وإرساله مقيّداً والقيام بأمر الجيش، ففعل ذلك وسار بالعسكر نحو أفراسياب، فسيّر أفراسياب العساكر إليه فاقتتلوا قتالاً شديداً كثرت فيه القتلى وانحازت الفرس إلى رؤوس الجبال وعادوا إلى كيخسرو، فوبّخ عمّه ولامه واهتمّ بغزو الترك، فأمر بجمع العساكر جميعها وأن لا يتخلّف أحدٌ، فلما اجتمعوا أعلمهم أنه يريد قصد بلاد الترك من أربعة وجوه، فسير جودرز في أعظم العساكر وزمره بالخدول إلى بلاد الترك مما يلي بلخ وأعطاه درفش كابيان، وهو العلم الأكبر الذي لهم، وكانوا لا يرسلونه إلا مع بعض أولاد الملوك لزمر عظيم، وسيّر عسكراً آخر من ناحية الصين، وسيّر عسكراً آخر مما يلي الخزر، وعسكراً آخر بين هذين العسكرين، فدخلت العساكر بلاد الترك من كل جهاتها وأخربتها، لا سيما جودرز، فإنّه قتل وأخرب وسبى، وتبعه كيخسرو بنفسه في طريقه، فوصل إليه وقد قتل جماعة كثيرة من أهل أفراسياب وأثخن فيهم، ورآه قد قتل خمسمائة ألف ونيّفاً وستين ألفاً وأسر ثلاثين ألفاً وغنم ما لا يعدّ ولا يحصى، وعرض عليه من قتل من أهل أفراسياب طراحنته، فعظم جودرز عنده وشكره وأقطعه أصبهان وجرجان، ووردت عليه الكتب من عساكره الداخلة من تلك الوجوه إلى الترك بما قتلوا وغنموا وأخربوا وأنهم هزموا لأفراسياب عسكراً بعد عسكر، فكتب إليهم أن يجدّوا في محاربتهم ويوافوه بموضع سمّاه لهم.
فلما بلغ أفراسياب قتل من قتل من طراخنته وأهله وعساكره عظم ذلك عليه فسقط في يديه ولم يكن بقي عنده من أولاده غير ولده شيده، فوجّهه في جيش نحو كيخسرو، فسار إليه واقتتلوا قتالاً شديداً أربعة أيام، ثم انهزمت الترك وتبعهم الفرس يقتلونهم ويأسرون، وأدركوا ابن أفراسياب فقتلوه، وسمع أفراسياب بالحادثة وقتل ابنه فأقبل فيمن عنده من العساكر فلقي كيخسرو فاقتتلوا قتالاً شديداً لم يسمع بمثله، واشتدّ الأمر، فانهزم أفراسياب وكثر القتل في الترك فقتل منهم مائة ألف، وجدّ كيخسرو في طلب أفراسياب، ولم يزل يهرب من بلد إلى بلد حتى بلغ أذربيجان فاستتر، وظفر به وأتى به إلى كيخسرو، فلما حضر عنده سأله عن غدره بأبيه، فلم يكن له حجّة ولا عذر، فأمر بقتله، فذبح كما ذبح سياوخش، ثم انصرف من أذربيجان مظفّراً منصوراً فرحاً.
فلما قتل أفراسياب ملك الترك بعده أخوه كي سواسف، فلما توفي ملك بعده ابنه جرازسف، وكان جبّاراً عاتياً.
فلما فرغ كيخسرو من الأخذ بثأر أبيه واستقرّ في ملكه زهد في الدنيا وترك الملك وتنسّك، واجتهد أهله وأصحابه به ليلازم الملك فلم يفعل، فقالوا له: فاعهد إلى من يقوم بالملك بعدك، فعهد إلى لهراسب، وفارقهم كيخسرو وغاب عنهم، فلا يدري ما كان منه ولا أين مات، وبعض يقول غير ذلك.
وكان ملكه ستين سنة، وملك بعده لهراسب.

.ذكر أمر بني إسرائيل بعد سليمان:

قيل: ثم ملك بعد سليمان على بني اسرائيل ابنه رحبعم بن سليمان، وكان ملكه سبع عشرة سنة، ثمّ افترقت ممالك بني اسرائيل بعد رحبعم، فملك أبيا بن رحبعم سبط يهوذا وبنيامين دون سائر الأسباط، وذلك أنّ سائر الأسباط ملّكوا عليهم يوربعم بن بايعا عبد سليمان بسبب القربان الذي كانت جرادة زوجة سليمان فيما زعموا قرّبته في دره للصنم، فتوعّده الله تعالي أن ينزع بعض الملك عن ولده، فكان ملك أبيا بن رحبعم ثلاث سنين، ثمّ ملك أسا بن أبيا أمر السبطين اللذين كان أبوه يملكهما إحدى وأربعين سنة؛ وكان رجلاً صالحاً، وكان أعرج.

.ذكر محاربة آسا بن أفيا ورزح الهندي:

قيل: كان أسا بن أبيا رجلاً صالحاً، وكان أبوه قد عبد الأصنام ودعا الناس إلى عبادتها، فلما ملك ابنه أسا أمر منادياً فنادى: ألا إنّ الكفر قد مات وأهله وعاش الإيمان وأهله، فليس كافر في بني اسرائيل يطلع رأسه بكفر إلا قتلته، فإن الطوفان لم يغرق الدنيا وأهلها ولم يخسف بالقرى ولم تطمر الحجارة والنار من السماء إلى الأرض إلا بترك طاعة الله والعمل بمعصيته وشدد في ذلك. فأتى بعضهم ممن كان يعبد الأصنام ويعمل بالمعاصي إلى أم أسا الملك، وكانت تعبد الأصنام، فشكوا إليها، فجاءت إليه ونهته عما كان يفعله وبالغت في زجره، فلم يصغ إلى قولها بل تهددها على عبادة الأصنام وأظهر البراءة منها، فحينئذٍ أيس الناس منه وانتزح من كان يخافه وساروا إلى الهند.
وكان بالهند ملك يقال له رزح، وكان جبّاراً عاتياً عظيم السلطان قد أطاعه أكثر البلاد، وكان يدعو الناس إلى عبادته، فوصل اليه أولذك النفر من بني اسرائيل وشكوا إليه ملكهم ووصفوا له البلاد وكثرتها وقلّة عسكرها وضعف ملكها وأطمعوه فيها. فأرسل الجواسيس فأتوه بأخبارها، فلما تيقن الخبر جمع العساكر وسار إلى الشام في البحر، وقال له بنو اسرائيل: إن لأسا صديقاً ينصره ويعينه، قال: فأين أسا وصديقه من كثرة عساكري وجنودي وبلغ خبرُه إلى أسا، فتضرّع إلى الله تعالي وأظهر الضعف والعجز عن الهنديّ وسأل الله النصرة عليه، فاستجاب الله له وأراه في المنام: إنّي سأظهر من قدرتي في رزح الهنديّ وعساكره ما أكفيك شرهم وأغنمكم أموالهم حتى يعلم أعداؤك أن صديقك لا يُطاق وليّه ولا ينهزم جنده.
ثمّ سار رزح حتى أرسى بالساحل، وسار إلى بيت المقدس، فلما صار على مرحلتين منه فرق عساكره، فامتلأت منهم تلك الأرض وملئت قلوب بني إسرائيل رعباً، وبعث أسا العيون فعادوا وأخبروه من كثرتهم بما لم يُسمع بمثله، وسمع الخبر بنو اسرائيل فصاحوا وبكوا وودّع بعضهم بعضاً وعزموا على أن يخرجوا إلى رزح ويستسلموا إليه وينقادوا له، فقال لهم ملكهم: إنّ ربي قد وعدني بالظفر ولا خلف لوعده، فعاودوا الدعاء والتضرّع، ففعلوا ودعوا جميعهم وتضرّعوا، فزعموا أن الله أوحى إليه: يا أسا إنّ الحبيب لا يُسلم حبيبه، وأنا الذي أكفيك عدوّك فإنّه لا يهون من توكل عليّ، ولا يضعف من تقوى بي، وقد كنت تذكرني في الرخاء فلا أسلمك في الشدّة، وسأرسل بعض الزبانية يقتلون أعدائي، فاستبشر وأخبر بني اسرائيل، فأما المؤمنون فاستبشروا وأما المنافقون فكذبوه. وزمره الله بالخروج إلى رزح في عساكره، فخرج في نفر يسير، فوقفوا على رابية من الأرض ينظرون إلى عساكره، فلمّا رآهم رزح احتقرهم واستصغرهم وقال: إنما خرجت من بلادي وجمعت عساكري وأنفقت أموالي لهذه الطائفة ودعا النفر من بني اسرائيل الذين قصدوه والجواسيس الذين أرسلهم ليختبروا له وقال: كذبتموني وأخبرتموني بكثرة بني اسرائيل حتى جمعت العساكر وفرقت أموالي ثم أمر بهم فقتلوا، وأرسل إلى أسا يقول له: أين صديقك الذي ينصرك ويخلّصك من سطوتي؟ فأجابه أسا: يا شقيّ إنّك لا تعلم ما تقول أتريد أن تغالب الله بقوتك أم تكاثره بقلتك؟ وهو معي في موقفي هذا، ولن يغلب أحد كان الله معه، وستعلم ما يحل بك فغضب رزح من قوله وصفّ عساكره وخرج إلى قتال أسا وأمر الرّماة فرموهم بالسهام، وبعث الله من الملائكة مدداً لبني اسرائيل، فأخذوا السهام ورموا بها الهنود، فقتلت كل إنسان منهم نشّابته، فقتل جميع الرماة، فضج بنو اسرائيل بالتسبيح والدّعاء، وتراءت الملائكة للهنود، فلمّا رآهم رزح ألقي الله الرعب في قلبه وسقط في يده ونادى في عساكره يأمرهم بالحملة عليهم، ففعلوا، فقتلتهم الملائكة ولم يبق منهم غير رزح وعبيده ونسائه، فلما رأى ذلك ولّى هارباً وهو يقول: قتلني صديق أسا.
فلما رآه أسا مدبراً قال: اللهم إنك إن لم تهلكه استنفر علينا نائبه، وبلغ رزح ومن معه إلى البحر فركبوا السفن، فلما سارت بهم أرسل الله عليهم الرياح فعرّقتهم أجمعين. ثم ملك بعد أسا ابنه سافاط إلى أن هلك خمساً وعشرين سنة، ثم ملكت عزليا بنت عمرم أخت أخزيا، وكانت قتلت أولاد ملوك بني اسرائيل ولم يبق منهم إلا يواش بن أخزيا، وهو ابن ابنها، فإنه ستر عنها، ثم قتلها بواش وأصحابه، وكان ملكها سبع سنين؛ ثم ملك يواش أربعين سنة، ثم قتله أصحابه، وهو الذي قتل جدّته؛ ثم ملك عوزيا بن امصيا بن يواش، ويقال له غوزيا، إلى أن توفي اثنتين وخمسين سنة؛ ثم ملك يوثام بن عوزيا إلى أن توفّي ستّ عشرة سنة؛ ثم ملك حزقيا بن أحاز إلى أن توفي، فيقال: إنه صاحب شعيا الذي أعلمه شعيا انقضاء عمره، فتضرّع إلى ربّه فزاده، وأمر شعيا بإعلامه ذلك، وقيل: إن صاحب شعيا في هذه القصة اسمه صدقيا، على ما يرد ذكره.

.ذكر شعيا والملك الذي معه من بني إسرائيل ومسير سنحاريب إلى بني إسرائيل:

قيل: كان الله تعالى قد أوحى إلى موسى ما ذكر في القرآن: {وقضينا إلى بني اسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً فإذا جاء وعد أولادهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجلعناكم أكثر نفيراً إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبّروا ما علوا تتبيراً عسى ربّكم أن يرحمكم وإن عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً}.
فكثر في بني اسرائيل الأحداث والذنوب، وكان الله يتجاوز عنهم متعطفاً عليهم، وكان من أول ما أنزل الله عليهم عقوبة لذنوبهم أنّ ملكاً منهم يقال له صدقية، وكانت عادتهم إذا ملك عليهم رجل بعث الله إليه نبياً يرشده ويوحي إليه ما يريد، ولم يكن لهم غير شريعة التوراة، فلما ملك صدقية بعث الله تعالى إليه شعيا، وهو الذي بشر بعيسى وبمحمد، عليهما السلام، فلما قارب أن ينقضي ملكه عظمت الأحداث في بني اسرائيل، فأرسل الله عليهم سنحاريب ملك بابل في عساكر يغصّ بها الفضاء، فسار حتى نزل بيت المقدس وأحاط به وملك بني اسرائيل مريض في ساقه قرحة، فأتاه النبيّ شعيا وقال له: إنّ الله يأمرك أن توصي وتعهد فإنك ميت، فأقبل الملك على الدعاء والتضرّع، فاستجاب الله له، فأوحى الله إلى شعيا أنه قد زاد في عمر الملك صدقية خمس عشرة سنة وأنجاه من عدّوه سنحاريب، فلما قال له ذلك زال عنه الألم وجاءته الصحة.
ثم إن الله أرسل على عساكر سنحاريب ملكاً صاح بهم فماتوا غير ستة نفر منهم: سنحاريب وخمسة من كتّابه، أحدهم بخت نصّر في قول بعضهم، فخرج صدقية وبنو اسرائيل إلى معسكرهم فغنموا ما فيه والتمسوا سنحاريب فلم يجدوه، فأرسل الطلب في أثره فوجدوه ومعه أصحابه، فأخذوهم وقيدوهم وحملوهم إليه فقال لسنحاريب: كيف رأيت صنع ربّنا بك؟ فقال: قد أتاني خبر ربّكم ونصره إياكم فلم أسمع ذلك، فطاف بهم حول بيت المقدس ثم سجنهم.
فأوحى الله إلى شعيا يأمر الملك بإطلاق سنحاريب ومن معه، فأطلقهم، فعادوا إلى بابل وأخبروا قومهم بما فعل الله بهم وبعساكرهم، وبقي بعد ذلك سبع سنين ثم مات.
وقد زعم بعض أهل الكتاب أن بني اسرائيل سار إليهم قبل سنحاريب ملك من ملوك بابل يقال له كفرو، وكان بخت نصّر ابن عمّه وكاتبه، وأنّ الله أرسل عليهم ريحاً فأهلكت جيشه وأفلت هو وكاتبه، وأن هذا البابليّ قتله ابن له، وأن بخت نصر غضب لصاحبه فقتل ابنه الذي قتله، وأن سنحاريب سار بعد ذلك وكان ملكه بنينوي وغزا مع ملك أذربيجان يومئذٍ بني اسرائيل فأوقع بهم، ثم اختلف سنحاريب وملك أذربيجان وتحاربا حتى تفانى عسكراهما، فخرج بنو اسرائيل وغنموا ما معهم.
وقيل: كان ملك سنحاريب إلى أن توفّي تسعاً وعشرين سنة، وكان ملك بني اسرائيل الذي حصره سنحاريب حزقياً، فلمّا توفّي حزقيا ملك بعده ابنه منشى خسماً وخمسين سنة، ثم ملك بعده آمون إلى أن قتله أصحابه ثنتي عشرة سنة، ثم ملك ابنه يوشيا إلى أن قتله فرعون مصر الأجدع إحدى وثلاثين سنة؛ ثم ملك بعده ابنه ياهو أحاز بن يوشيا، فعزله فرعون الأجدع واستعمل بعده يوياقيم بن ياهو أحاز ووظف عليه خراجاً يحمله إليه، وكان ملكه اثنتي عشرة سنة، ثم ملك بعده ابنه يوياحين، فغزاه بخت نصّر وأشخصه إلى بابل بعد ثلاثة أشهر من ملكه، وملك بعده يقونيا ابن عمه، وسماه صدقية، وخالفه فغزاه وظفر به وحمله إلى بابل وذبح ولده بين يديه وسمل عينيه وخرّب بيت المقدس والهيكل وسبى بني اسرائيل وحملهم إلى بابل، فمكثوا إلى أن عادوا إليه، على ما نذكره إن شاء الله؛ وكان جميع ملك صدقية إحدى عشرة سنة.
وقيل: إن شعيا أوحى الله إليه ليقوم في بني اسرائيل يذكرهم بما يوحي الله على لسانه لما كثرت فيهم الأحداث، ففعل، فعدوا عليه ليقتلوه، فهرب منهم، فلقيته شجرة فانفلقت له، فدخلها، وأخذ الشيطان بهدب ثوبه وأراه بني اسرائيل، فوضعوا المنشار على الشجرة فنشروها حتي قطعوه في وسطها.
وقيل في أسماء ملوكهم غير ذلك، ركناه كراهة التطويل ولعدم الثقة بصحة النقل به.

.ذكر ملك لهراسب وابنه بشتاسب وظهور زرادشت:

قد ذكرنا أن كيخسرو لما حضرته الوفاة عهد إلى ابن عمّه لهراسب بن كيوخى بن كيكاووس، فهو ابن ابن كيكاووس، فلمّا ملك اتخذ سريراً من ذهب وكلّله بأنواع الجواهر وبنيت له بزرض خراسان مدينة بلخ وسمّاها الحسناء، ودوّن الدواوين، وقوّى ملكه بانتخابه الجنود، وعمر الأرض، وجبى الخراج لأرزاق الجند.
واشتدّت شوكة الترك في زمانه فنزل بلخ لقتالهم، وكان محموداً عند أهل مملكته شديد القمع لأعدائه المجاورين له، شديد التفقد لأصحابه، وبعيد الهمة، عظيم البنيان، وشقّ عدّة أنهار، وعمر البلاد، وحمل إليه ملوك الهند الروم والمغرب الخراج، وكاتبوه بالتمليك هيبةً له وحذراً منه.
ثم إنه تنسّك وفارق الملك واشتغل بالعبادة واستخلف ابنه بشتاسب في الملك، وكان ملكه مائة وعشرين سنة، وملك بعده ابنه بشتاسب، وفي أيامه ظهر زرادشت بن سقيمان الذي ادّعى النبوّة وتبعه المجوس، وكان زرادشت فيما يزعم أهل الكتاب من أهل فلسطين يخدم لبعض تلامذة إرميا النبيّ خاصّاً به، فخانه وكذب عليه، وفدعا الله عليه فبرص ولحق ببلاد أذربيجان وشرع بها دين المجوس.
وقيل: إنّه من العجم، وصنّف كتاباً وطاف به الأرض، فما عرف أحد معناه، وزعم أنها لغة سماوية خوطب بها، وسمّاه: اشتا، فسار من أذربيجان إلى فارس، فلم يعرفوا ما فيه ولم يقبلوه، فسار إلى الهند وعرضه على ملوكهم، ثمّ أتى الصين والترك فلم يقبله أحد وأخرجوه من بلادهم، وقصد فرغانة، فأراد ملكها أن يقتله فهرب منها وقصد بشتاسب بن لهراسب، فأمر بحبسه، فحبس مدّة، وشرح زرادشت كتابه وسمّاه: زند، ومعناه: التفسير، ثم شرح الزند بكتاب سمّاه: بازند، يعني: تفسير التفسير، وفيه علوم مختلفة كالرياضات وأحكام النجوم والطبّ وغير ذلك من أخبار القرون الماضية وكتب الأنبياء، وفي كتابه: تمسّكوا بما جئتكم به إلى أن يجيئكم صاحب الجمل الأحمر، يعني محمّداً، صلى الله عليه وسلم، وذلك على رأس ألف سنة وستّ مائة سنة، وبسبب ذلك وقعت البغضاء بين المجوس والعرب، ثم يذكر عند أخبار سابور ذي الأكتاف أنّ من جملة الأسباب الموجبة لغزوة العرب هذا القول؛ والله أعلم.
ثمّ إنّ بشتاسب أحضر زرادشت، وهو ببلخ، فلمّا قدم عليه شرع له دينه، فأعجبه واتبعه وقهر الناس على اتباعه وقتل منهم خلقاً كثيراً حتى قبلوه ودانوا به.
وأمّا المجوس فيزعمون أن أصله من أذربيجان، وأنه نزل على الملك من سقف إيوانه وبيده كبّة من نار يلعب بها ولا تحرقه، وكلّ من أخذها من يده لم تحرقه، وأنه اتبعه الملك ودان بدينه وبنى بيوت النيران في البلاد وأشعل من تلك النار في بيوت النيران، فيزعمون أن النيران التي في بيوت عباداتهم من تلك إلى الآن.
وكذبوا فإنّ النار التي للمجوس طفئت في جميع البيوت لما بعث الله محمداً، صلى الله عليه وسلم، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
وكان هظور زرادشت بعد مضيّ ثلاثين سنة من ملك بشتاسب، وأتاه بكتاب زعم أنه وحي من الله تعالى، وكتب في جلد اثني عشر ألف بقرة حفراً ونقشاً بالذهب، فجعله بشتاسب في موضع بإصطخر ومنع من تعليمه العامة.
وكان بشتاسب وآباؤه قبله يدينون بدين الصابئة، وسيرد باقي أخباره.

.ذكر مسير بختنصّر إلى بني إسرائيل:

قد اختلف العلماء في الوقت الذي أرسل فيه بخت نصّر على بني اسرائيل، فقيل: كان في عهد إرميا النبيّ ودانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل، وقيل: إنما أرسله الله على بني اسرائيل لما قتلوا يحيى بن زكرياء، والأول أكثر.
وكان ابتداء أمر بخت نصّر ما ذكره سعيد بن جبير قال: كان رجل من بني اسرائيل يقرأ الكتب، فلما بلغ إلى قوله تعالى: {بعثنا عليكم عباداً لنا أولي بأس شديد} الاسراء: 5، قال: أي ربّ أرني هذا الرجل الذي جعلت هلاك بني اسرائيل على يده، فزري في المنام مسكيناً يقال له بخت نصر ببابل، فسار على سبيل التجارة إلى بابل وجعل يدعو المساكين ويسأل عنهم حتى دلّوه على بخت نصّر، فأرسل من يحضره، قرآه صعلوكاً مريضاً، فقام عليه في مرضه يعالجه حتى برأ، فلمّا برأ أعطاه نفقة وعزم على السفر، فقال له بخت نصّر وهو يبكي: فعلت معي ما فعلت ولا أقدر على مجازاتك قال الإسرائيلي: بلى تقدر عليه، تكتب لي كتاباً إن ملكت أطلقتني، فقال: أتستهزئ بي؟ فقال: إنما هذا أمر لا محالة كائن.
ثمّ إن ملك الفرس أحب أن يطلع على أحوال الشام، فأرسل إنساناً يثق به ليتعرّف له أخباره وحال من فيه، فسار إليه ومعه بخت نصّر فقير لم يخرج إلا للخدمة، فلما قدم الشام رأى أكبر بلاد الله خيلاً ورجالاً وسلاحاً، ففتّ ذلك في ذرعه، فلم يسأل عن شيء، وجعل بخت نصّر يجلس مجالس أهل الشام فيقول لهم: ما يمنعكم أن تغزوا بابل، فلو غزوتموها ما دون بيت ما لها شيء فكلّهم يقول له: لا نحسن القتال ولا نراه، فلما عادوا أخبر الطليعة بما رأوا من الرجال والسلاح والخيل، وأرسل بخت نصّر إلى الملك يطلب إليه أن يحضره ليعرفه جليّة الحال، فأحضره، فأخبره بما كان جميعه، ثمّ إنّ الملك أراد أن يبعث عسكراً إلى الشام أربعة آلاف راكب جريدة، واستشار فيمن يكون عليهم، فأشاروا ببعض أصحابه، فقال: لا بل بخت نصّر، فجعله عليهم، فساروا فغنموا وأوقعوا ببعض البلاد وعادوا سالمين.
ثم إنّ لهراسب استعلمه أصبهبذ على ما بين الأهواز إلى أرض الروم من غربيّ دجلة؛ وكان السبب في مسيره إلى بني اسرائيل أنه لما استعمله لهراسب كما ذكرنا سار إلى الشام فصالحه أهل دمشق وبيت المقدس، فعاد عنهم وأخذ رهائنهم، فلمّا عاد من القدس إلى طبرية وثب بنو اسرائيل على ملكهم الذي صالح بخت نصّر فقتلوه وقالوا: داهنت أهل بابل وخذلتنا، فلمّا سمع بخت نصّر بذلك قتل الرهائن الذين معه وعاد إلى القدس فأخبره.
وقيل: إن الذي استعمله إنما كان الملك بهمن بن بشتاسب بن لهراسب، وكان بخت نصّر قد خدم جدّه وأباه وخدمه وعمّر عمراً طويلاً، فأرسل بهمن رسلاً إلى ملك بني اسرائيل ببيت المقدس فقتلهم الإسرائيليّ، فغضب بهمن من ذلك واستعمل بخت نصّر على أقاليم بابل وسيّره في الجنود الكثيرة، فعمل بهم ما نذكره.
هذه الأسباب الظاهرة وإنما السبب الكلّيّ الذي أحدث هذه الأسباب الموجبة للانتقام من بني اسرائيل هو معصية الله تعالى ومخالفة أواره، وكانت سنة الله تعالى في بني اسرائيل أنه إذا ملك عليهم ملكاً أرسل معه نبيّاً يرشده ويهديه إلى أحكام التوراة، فلما كان قبل مسير بخت نصّر إليهم كثرت فيهم الأحداث والمعاصي، وكان الملك فيهم يقونيا بن يوياقيم، فبعث الله إليه إرميا، قيل: هو الخضر، عليه السلام، فأقام فيهم يعدوهم إلى الله وينهاهم عن المعاصي ويذكر لهم نعمة الله عليهم بإهلاك سنحاريب، فلم يرعووا، فأمره الله أن يحذرهم عقوبته وأنه إن لم يراجعوا الطاعة سلّط عليهم من يقتلهم ويسبي ذراريّهم ويخرب مدينتهم ويستعبدهم ويأتيهم بجنود ينزع من قلوبهم الرأفة والرحمة، فلم يراجعوها فأرسل الله إليه: لأقيضنّ لهم فتنة تذر الحليم حيران ويضلّ فيها رأي ذي الرأي وحكمة الحكيم، ولأسلطن عليهم جبّاراً قاسياً عاتياً ألبسه الهيبة وأنزع من صدره الرحمة، يتبعه عدد مثل سواد الليل، وعساكر مثل قطع السحاب، يهلك بني اسرائيل وينتقم منهم ويخرب بيت المقدس.
فلمّا سمع إرميا ذلك صاح وبكى وشقّ ثيابه، وجعل الرماد على رأسه وتضرّع إلى الله في رفع ذلك عنهم في أيّامه.
فأوحى الله إليه: وعزّتي لا أهلك بيت المقدس وبني اسرائيل حتى يكون الأمر من قبلك في ذلك، ففرح إرميا، وقال: لا والذي بعث موسى وأنبياءه بالحقّ لا آمر بهلاك بني اسرائيل أبداً.
وأتى ملك بني اسرائيل فأعلمه بما أوحي إليه، فاستبشر وفرح، ثمّ لبثوا بعد هذا الوحي ثلاث سنين ولم يزدادوا إلا معصيةً وتمادياً في الشرّ، وذلك حين اقترب هلاكهم، فقل الوحي حيث لم يكونوا هم يتذكّرون، فقال لهم ملكهم: يا بني اسرائيل انتهوا عمّا أنتم عليه قبل أن يأتيكم عذاب الله فلم ينتهوا، فألقى الله في قلب بخت نصّر أن يسير إلى بني اسرائيل ببيت المقدس، فسار في العساكر الكثيرة التي تملأ الفضاء.
وبلغ ملك بني اسرائيل الخبر، فاستدعى إرميا النبيّ، فلمّا حضر عنده قال له: يا إرميا أين ما زعمت أنّ ربّك أوحي إليك أن لا يهلك بيت المقدس حتى يكون الأمر منك؟ فقال إرميا: إن ربي لا يخلف الميعاد وأنا به واثق.
فلما قرب الأجل ودنا انقطاع ملكهم وأراد الله إهلاكهم أرسل الله ملكاً في صورة آدمي إلى إرميا وقال له: استفته، فأتاه وقال له: يا إرميا أنا رجل من بني اسرائيل أستفتيك في ذوي رحمي، وصلت أرحامهم بما أمرني الله به وأتيت إليهم حسناً وكرامة فلا تزيدهم كرامتي إيّاهم إلا سخطاً لي وسوء سيرة معي فأفتني فيهم، فقال له: أحسن فيما بينك وبين الله وصل ما أمرك الله به أن تصله، فانصرف عنه الملك ثم عاد إليه بعد أيام في تلك الصورة، فقال له إرميا: أما طهرت أخلاقهم وما رأيت منهم ما تريد؟ فقال: والذي بعثك بالحق ما أعلم كرامة يأتيها أحد من الناس إلى ذوي رحمه إلا وقد أتيتها إليهم وأفضل من ذلك فلم يزدادوا إلا سوء سيرة، فقال: ارجع إلى أهلك وأحسن إليهم، فقام الملك من عنده فلبث أياماً، ونزل بخت نصّر على بيت المقدس بأكثر من الجراد، ففزع منهم بنو إسرائيل وقال ملكهم لإرميا: أين ما وعدك ربك؟ فقال: إني بربي واثق.
ثمّ إن الملك الذي أرسله الله يستفتي إرميا عاد إليه وهو قاعد على جدار بيت المقدس فقال مثل قوله الأول وشكا أهله وجورهم وقال له: يا نبيّ الله كلّ شيء كنت أصبر عليه قبل اليوم لأنّ ذلك كان فيه سخطي، وقد رأيتهم اليوم على عمل عظيم من سخط الله تعالى، فلو كانوا على ما كانوا عليه اليوم لم يشتدّ عليهم غضبي، وإنما غضبت اليوم لله وأتيتك لأخبرك خبرهم، وإني أسألك بالله الذي بعثك بالحق إلا ما دعوت الله عليهم أن يهلكوا، فقال إرميا: يا ملك السموات والأرض إن انوا على حقّ وصواب فأبقهم، وإن كانوا على سخطك وعمل لا ترضاه فأهلكهم، فلمّا خرجت الكلمة من فيه أرسل الله صاعقة من السماء في بيت المقدس والتهب مكان القربان وخسف بسبعة أبواب من أبوابها.
فلما رأى ذلك إرميا صاح وشقّ ثيابه ونبذ الرماد على رأسه وقال: يا ملك السموات والأرض، يا أرحم الراحمين أين ميعادك، أيا ربّ، الذي وعدتني به؟ فأوحى الله إليه أنه لم يصبهم ما أصابهم إلا بفتياك التي أفتيت رسولنا، فاستيقن أنها فتياه وأنّ السائل كان من عند الله، وخرج إرميا حتى خالط الوحش، ودخل بخت نصّر وجنوده بيت المقدس، فوطئ الشام وقتل بني اسرائيل حتى أفناهم، وخرّب بيت المقدس وأمر جنوده، فحملوا التراب وألقوه فيه حتى ملأوه ثمّ انصرف راجعاً إلى بابل وأخذ معه سبايا بني اسرائيل، وأمرهم، فجمعوا من كان في بيت المقدس كلّهم، فاجتمعوا واختار منهم مائة ألف صبيّ فقسمهم على الملوك والقوّاد الذين كانوا معه، وكان من أولئك الغلمان دانيال النبيّ وحنانيا وعزاريا وميشائيل، وقسّم بني اسرائيل ثلاث فرق، فقتل ثلثاً، وأقرّ بالشام ثلثاً، وسبى ثلثاً، ثمّ عمر الله بعد ذلك إرميا، فه الذي رئي بفلوات الأرض والبلدان.
ثم إنّ بخت نصّر عاد إلى بابل وأقام في سلطانه ما شاء الله أن يقيم، ثمّ رأى رؤيا، فبينما هو قد أعبجه ما رأى، فدعا دانيال وحنانيا وعزاريا وميشائيل وقال: أخبروني عن رؤيا رأيتها فأنسيتها، ولذن لم تخبروني بها وبتأويلها لأنزعنّ أكتافكم فخرجوا من عنده ودعوا الله وتضرّعوا إليه وسألوه أن يعلمهم إيّاها، فأعلمهم الذي سألهم عنه، فجاءوا إلى بخت نصّر فقالوا: رأيت تمثالاً، قال: صدقتم، قالوا: قدماه وساقاه من فخّار وركبتاه وفخذاه من نحاس وبطنه من فضّة وصدره من ذهب ورأسه وعنقه من حديد، فبينما أنت تنظر إليه قد أعجبك أرسل الله عليه صخرة من السماء فدقّته، وهي التي أنستك الرؤيا قال: صدقتم، فما تأويلها؟ قالوا: أريت ملك الملوك، وبعضهم كان ألين ملكاً من بعض، وبعضهم كان أحسن ملكاً من بعض، وبعضهم أشدّ، وكان أوّل الملك الفخّار، وهو أضعفه وألينه، ثمّ كان فوقه النحاس، وهو أفضل منه وأشدّ، ثمّ كان فوق النحاس الفضّة، وهي أفضل من ذلك وأحسن، ثمّ كان فوقها الذهب، وهو أحسن من الفضّة وأفضل، ثمّ كان الحديد، وهو ملكك، فهو أشد الملوك وأعزّ، وكانت الصخرة التي رأيت قد أرسل الله من السماء فدقّت ذلك جميعه نبيّاً يبعثه الله من السماء ويصير الأمر إليه.
فلما عبّر دانيال ومن معه رؤيا بخت نصّر قرّبهم وأدناهم واستشارهم في أمره، فحسدهم أصحابه وسعوا بهم إليه وقالوا عنهم ما أوحشه منهم، فأمر، فحفر لهم أخدود وألقاهم فيه، وهم ستّة رجال، وألقى معهم سبعاً ضارياً ليأكلهم، ثم قال أصحاب بخت نصّر: انطلقوا فلنأكل ولنشرب، فذهبوا فأكلوا وشربوا، ثمّ راحوا فوجدوهم جلوساً والسبع مفترش ذراعيه بينهم لم يخدش منهم أحداً، ووجدوا معهم رجلاً سابعاً، فخرج إليهم السابع، وكان ملكاً من الملائكة، فلطم بخت نصّر لطمةً فمسخه وصار في الوحش في صورة أسد، وهو مع ذلك يعقل ما يعقله الإنسان، ثم رده الله إلى صورة الإنس وأعاد عليه ملكه، فلما عاد إلى ملكه كان دانيال وأصحابه أكرم الناس عليه، فعاد الفرس وسعوا بهم إلى بخت نصّر وقالوا له في سعايتهم: إنّ دانيال إذا شرب الخمر لا يملك نفسه من كثرة البول، وكان ذلك عندهم عاراً؛ فصنع لهم بخت نصّر طعاماً وأحضره عنده وقال للبواب: انظر أوّل من يخرج ليبول فاقتله، وإن قال لك: أنا بخت نصّر، فقل له: كذبت، بخت نصّر أمرني بقتلك واقتله.
فحبس الله عن دانيال البول، وكان أول من قام من الجمع بخت نصّر فقام مدلاً أنه الملك، وكان ذلك ليلاً، فلما رآه البواب شد عليه ليقتله، فقال له: أنا بخت نصّر فقال: كذبت، بخت نصّر أمرني بقتلك، وقتله.
وقيل في سبب قتله: إن الله أرسل عليه بعوضة فدخلت في منخره وصعدت إلى رأسه، فكان لا يقرّ ولا يسكن حتى يدقّ رأسه، فلما حصره الموت قال لأهله: شقّوا رأسي فانظروا ما هذا الذي قتلني، فلما مات شقّوا رأسه فوجدوا البعوضة بأمّ رأسه، ليرى الله العباد قدرته وسلطانه وضعف بخت نصّر، لما تجبّر قتله بأضعف مخلوقاته، تبارك الذي بيده ملكوت كلّ شيء، يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.
وأما دانيال فإنه أقام بأرض بابل وانتقل عنها ومات ودفن بالسوس من أعمال خوزستان.
ولما أراد الله تعالى أن يردّ بني اسرائيل إلى بيت المقدس كان بخت نصّر قد مات، فإنه عاش بعد تخريب بيت المقدس أربعين سنة، في قول بعض أهل العلم، وملك بعده ابن له يقال له أولمردج، فملك الناحية ثلاثاً وعشرين سنة، ثم هلك وملك ابن له بلتاصر سنة، فلما ملك تخلط في أمره، فعزله ملك الفرس حينئذٍ؛ وهو مختلف فيه علي ما ذكرناه؛ واستعمل بعده داريوش على بابل الشام، وبقي ثلاثين سنة، ثمّ عزله واستعمل مكانه أخشويرش، فبقي أربع عشرة سنة، ثمّ ملك ابنه كيرش العلميّ، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، وكان قد تعلّم التوراة ودان باليهودية، وفهم عندانيال ومن معه مثل حنانيا وعزاريا وغيرهما، فسألوه أن يأذن لهم في الخروج إلى بيت المقدس، فقال: لو كان بقي منكم منكم ألف نبيّ ما فارقتكم، وولّى دانيال القضاء وجعل إليه جميع أمره، وأره أن يقسم ما غنمه بخت نصّر من بني اسرائيل عليهم، وأمره بعمارة بيت المقدس، فعمّر في أيّامه، وعاد إليه بنو اسرائيل.
وهذه المدّة لهؤلاء الملوك معدودة من خراب بيت المقدس منسوبة إلى بخت نصر، وكان ملك كيرش اثنتين وعشرين سنة.
وقيل: إنّ الذي أمر بعود بني اسرائيل إلى الشام بشتاسب بن لهراسب، وكان قد بلغه خراب بلاد الشام، وزنها لم يبق بها من بني اسرائيل أحد، فنادى في أرض بابل: من شاء من بني اسرائيل أن يرجع إلى الشام فليرجع، وملك عليهم رجلاً من آل داود وأمره أن يعمر بيت المقدس، فرجعوا وعمروه.
وكان إرميا بن خلقيا من سبط هارون بن عمران، فلمّا وطئ بخت نصّر الشام وخرّب بيت المقدس وقتل بني اسرائيل وسباهم، فارق البلاد واختلط بالوحش، فلما عاد بخت نصّر إلى بابل أقبل إرميا على حمار له معه عصير عنب وفي يده سلّة تين فرأى بيت المقدس خراباً فقال: {أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام} البقرة: 259 ثم أمات حماره وأعمى عنه العيون، فلما انعمر بيت المقدس أحيا الله من إرميا عينيه، ثمّ أحيا جسده، وهو ينظر إليه، وقيل له: {كم لبثت قال لبثت يوماً أو بعض يوم} قيل: {بل لبثت مائة عام فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه} يتغيّر {وانظر إلى حمارك} فنظر إلى عظام حماره وهي تجتمع بعضها إلى بعض، ثم كسي لحماً، ثم قام حيّاً بإذن الله، ونظر إلى المدينة وهي تبنى، وقد كثر فيها بنو إسرائيل وتراجعوا إليها من البلاد، وكان عهدها خراباً، وأهلها ما بين قتيل وأسير، فلما رآها عامرة {قال أعلم أن الله على كل شيء قدير} البقرة: 259.
وقيل: إنّ الذي أماته الله مائة عام ثمّ أحياه كان عزيزاً، فلما عاش قصد منزله من بيت المقدس على وهم منه فرأى عنده عجوزاً عمياء زمنه كانت جارية له، ولها من العمر مائة وعشرون سنة، فقال لها: هذا منزل عزيز؟ قالت: نعم، وبكت وقالت: ما أرى أحداً يذكر عزيزاً غيرك فقال: أنا عزيز، فقالت: إنّ عزيزاً كان مجاب الدعوة، فادع الله لي بالعافية، فدعا لها فعاد بصرها وقامت ومشت، فلما رأته عرفته، وكان لعزيز ولد وله من العمر مائة وثلاث عشرة سنة، وله أولاد شيوخ، فذهبت إليهم الجارية وأخبرتهم به، فجاؤوا، فلما رأوه عرفه ابنه بشامة كانت في ظهره.
وقيل: إنّ عزيزاً كان مع بني اسرائيل بالعراق، فعاد إلى بيت المقدس فجدّد لبني اسرائيل التوراة لأنهم عادوا إلى بيت المقدس، ولم يكن معهم التوراة لأنها كانت قد أُخذت فيما أخذ وأحرقت وعدمت، وكان عزيز قد أخذ مع السبي، فلما عاد عزيز إلى بيت المقدس مع بني اسرائيل جعل يبكي ليلاً ونهاراً وانفرد عن الناس، فبينما هو كذلك في حزنه إذ أقبل إليه رجل، وهو جالس، فقال: يا عزيز ما يبكيك؟ فقال: أبكي لأنّ كتاب الله وعهده كان بين أظهرنا فعدم، قال: فتريد أن يردّه الله عليكم؟ قال: نعم، قال: فارجع وصم وتطهر والميعاد بيننا غداً هذا المكان، ففعل عزيز ذلك وأتي المكان فانتظره، وأتاه ذلك الرجل بإناء فيه ماء، وكان ملكاً بعثه الله في صورة رجل، فسقاه من ذلك الإناء، فتمثلت التوراة في صدره، فرجع إلى بني اسرائيل فوضع لهم التوراة يعرفونها بحلالها وحرامها وحدودها، فأحبّوه حبّاً شديداً لم يحبّوا شيئاً قطّ مثله، وأصلح أمرهم، وأقام عزيز بينهم، ثمّ قبضه الله إليه على ذلك، وحدثت فيهم الأحداث، حتى قال بعضهم: عزيز ابن الله ولم يزل بنو اسرائيل ببيت المقدس، وعادوا وكثروا حتى غلبت عليهم الروم زمن ملوك الطوائف، فلم يكن لهم بعد ذلك جماعة.
وقد اختلف العلماء في أمر بخت نصّر وعمارة بيت المقدس اختلافاً كثيراً تركنا ذكره اختصاراً.